حوار صحفى مع الأستاذ إبراهيم حمزة

حوار صحفى مع الأستاذ إبراهيم حمزة

كتبه ibrahim awad ، في 10 مارس 2012 الساعة: 23:04 م ويُنشر مسلسلاً بجريدة الفتح (نُشر الجزء الثانى الجمعة 3/8/2012)

* نص الحوار نقلاً عن مدونة أستاذنا الدكتور إبراهيم عوض :


1- تابع المهتمون كثيرا من المعارك التى خضتموها مع أسماء لها معجبوها، مثل لويس عوض ود. محمد عبد الحى شعبان ومحمد أركون ود. محمود على مراد وخليل عبد الكريم وغيرهم… لماذا الانتقال من خندق النقد لمحراب العقيدة؟


** أولا ما تشير إليه على أنه معارك ليس فى الحقيقة معارك إلا فى حالتين اثنتين: الأولى حالة د. محمد على مراد، الذى كان قد أهدانى عبر الصديق المشترك المرحوم المستشار رابح لطفى جمعة رسالته التى كان قد حصل بها على درجة الدكتورية من إحدى الجامعات الفرنسية فى مرحلة متأخرة من حياته، إذ سجلها بعد بلوغه سن المعاش، وكان يشتغل وقتذاك أستاذا للترجمة فى الجامعة بسويسرا، وكانت الرسالة عن المرحلة المكية من سيرة ابن هشام، فقرأتها، فإذا بها هجوم عنيف على ابن هشام واتهام له بأنه، فى كتابته للسيرة النبوية، إنما كان يضع العباسيين فى حسابه طوال الوقت، ومن ثم تلونت كتابته لحياة النبى عليه السلام بهذا اللون. أى أن ابن إسحاق كان عميلا للسلطة العباسية، ولم يكن يكتب لوجه الحق بل لإرضاء العباسيين. ومعنى هذا أن ما نقرؤه فى سيرة النبى غير صحيح. وسوف أعطيك مثالين اثنين على ما قال، إذ زعم أن المسلمين الذين ذهبوا إلى الحبشة لم يكونوا مهاجرين، بل نقلتهم قريش إلى معسكرات اعتقال فى أرض الحبشة على ساحل البحر الأحمر. كما أن أصحاب الأخدود ليسوا هم اليهود بل القرشيون، إذ خدوا أخدودا كانوا يلقون فيه المسلمين ليموتوا احتراقا بالنار، وكان المتولى كِبْر هذا الأمر هو عبد العُزَّى عم الرسول، الذى لقب بـ"أبى لهب" لهذا السبب. فاللهب، طبقا لهذا التفسير العجيب، ليس لهب وجهه، أى حمرته، بل اللهب الذى كان يؤججه ليلقى فيه بالمسلمين… وعلى هذا فَقِسْ. وما إن قطعتُ فيها جزءا صغيرا حتى صح منى العزم على كتابة شىء عنها لوضع الأمر فى نصابه، فكتبت كتابى: "إبطال القنبلة النووية الملقاة على السيرة النبوية"، وهو عنوانٌ مستوحًى مما قاله الدكتور مراد نفسه حين وصف لى رسالته هذه فى خطاب منه إلىّ بأنها سوف يكون لها عند نشرها على الجمهور وقع القنبلة النووية، فأردت أن أقول له إن كتابى هذا هو بمثابة نزع الفتيل من تلك القنبلة قبل انفجارها. وقد غضب، إذ ظن فى البداية، عندما بعث إلىّ بنسخة من رسالته الفرنسية، أنى سوف أشاركه الرأى وأعمل على نشر أفكاره وأنافح عنها، فكتب مقالا فى "المصور" آنذاك يتهمنى فيه بإرهابه وتكفيره، وهو بطبيعة الحال ما لا حقيقة له من قريب أو من بعيد، فعرضت الأمر على القراء متحديا أن يجد أحد شيئا مما يقول المؤلف فى كتابى. بل إن صديقنا المشترك المستشار رابح جمعة كان يبدى استغرابه مرددا أننى، فى دراستى عنه، كنت ألكمه بقفاز من حرير (بنص كلامه)، وأنه ليس له أى حق فى ذلك الغضب. المهم أنى قمت بالرد على د. مراد فى "المصور" ذاته، وانتهى الأمر عند هذا الحد بالنسبة لى، وإن كنت عثرت بالمصادفة على مقال للدكتور محمد سليم العوا فى مجلة "الهلال" تناول فيه هذه القضية بتكليف، فيما يبدو، من دار الهلال ذاتها، إذ كانت قد نشرت للدكتور مراد رسالته عن ابن هشام بعد أن ترجمها إلى العربية من الفرنسية التى كتبها بها، وأرادت أن تُطْلِع الجمهور على رأى ثالث لا هو رأيى ولا رأى المؤلف.

والحالة الثانية هى حالة خليل عبد الكريم، الذى استفزنى ما قرأته فى مؤلفات تحمل اسمه (وإن كنت أشك فى أنه هو مؤلفها الحقيقى أو الكامل) تهاجم الإسلام والصحابة والقرآن هجوما عنيفا يتسم بالرعونة والسفاهة ومجافاة المنطق والتنكر لحقائق التاريخ، وتنقل عن أعداء الإسلام نقلا وتحاول فى الوقت ذاته أن تظهر بمظهر اللوذعية، فكان أن ألفتُ كتابى: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة"، أمسكت فيه بأهم ما ينسب لخليل عبد الكريم من كتب ولم أترك كتابا منها إلا ومسحت به الأرض كما نقول فى مصر، مبينا ما فيه من فهاهة وتهجم سافل وجنوح عن المنطق ومجافاة للتاريخ الحق. وقد نبهنى أحد طلابى فى الدراسات العليا إلى مقال يحمل اسم خليل عبد ا لكريم فى مجلة "أدب ونقد" يتعرض فيه لكتابى هذا ويثنى على العبد لله، قائلا إننى الكاتب الوحيد الذى قرأ كتبه قبل أن يكتب عنها، والوحيد الذى لم يحرض السلطات على محاكمته، ومحاولا أن يُذْهِب عن قلبى الشك فى أنه هو صاحب تلك الكتب التى تحمل اسمه.

أما بالنسبة إلى الانتقال من خانة النقد إلى خانة العقيدة فليس هناك فى الحقيقة انتقال بهذا المعنى، فمنذ أمسكت بالقلم وأنا أوزع اهتماماتى بين مجال الدراسات الإسلامية وبين مجال الأدب والنقد، الذى هو تخصصى العلمى، إذ إنى حاصل على الدكتورية من جامعة أوكسفورد فى النقد القصصى فى مصر منذ بداياته فى أواسط القرن التاسع عشر الميلادى إلى ثمانينات القرن الماضى حين انتهيت من رسالتى وحصلت بها على الدرجة العلمية التى بعثتنى جامعتى إلى بريطانيا لإحرازها. ولا تنس أننى كنت طالبا أزهريا فى صباى قبل أن أترك الأزهر وأحول أوراقى إلى المدرسة الأحمدية الثانية بطنطا، منتقلا بذلك من المعهد الأحمدى إلى المدرسة الأحمدية. كما أننى خريج قسم اللغة العربية (من آداب القاهرة)، وأقسام اللغة العربية تدرس الإسلام شريعة وتفسيرا وحديثا وتاريخا كما تعرف أنت قبل غيرك بوصفك واحدا من خريجيها حسب علمى. أى أننى إذا كنت أكتب فى الدراسات الإسلامية فليس هذا بالمستغرب. أليس كذلك؟ وعلى هذا فلو ذهبت تعد كتبى لوجدت نصفها تقريبا فى الأدب والنقد، ونصفها الآخر فى الإسلاميات. زد على ذلك أن هناك هجوما شرسا ضد الإسلام ازداد فى العقود الأخيرة. فإذا لم يتصد واحد مثلى لذلك الهجوم، فمن يفعل؟ كذلك ينبغى التنبه إلى أنه لولا الإسلام ما كانت اللغة العربية قد أتت إلى مصر، ولما تأدب المصريون بأدب العرب واتخذوا من تاريخهم تاريخا لهم. فما الغرابة إذن فى أن أجمع بين الكتابة فى الإسلاميات والكتابة فى الأدب والنقد العربى؟


2- كنتُ شاهدا على غضبتك لتصرفات النظام السابق فى لحظات هامة ومتعددة. كيف تنظر للثورة؟ وإلى أى مدى توقعتَها؟


** فيما يتعلق بالشق الأول من السؤال أنا معك فى أننى كنت دائما ساخطا على الأوضاع فى مصر وفى العالم العربى والإسلامى عموما، ومستغربا من الشعوب سكوتها عن المطالبة بحقها رغم أننى لم أكن يوما منتميا إلى حزب أو جماعة سياسية أو دينية، بل كنت فقط منتميا إلى الإسلام، ذلك الدين العظيم الذى ليس كمثله دين فى الماضى أو فى الحاضر، والذى أرى أن المسلمين الحاليين ينبغى أن يعيدوا نظرتهم إليه لأنهم لا يرون محاسنه ومجالى بهائه وروعته كما ينبغى. إن الأغلبية منهم للأسف تركز على الصلاة والملبس والمظهر فى الغالب، وتظن أنها بذلك قد أدت ما عليها، وينبغى أن تكون لها السيادة فى الدنيا والآخرة، وهو ما لا يحدث أبدا، فتستغرب غافلة عن أن دين الله أوسع وأعظم من أن نحصره فى الصلاة والملبس فحسب، وإلا فأين الاهتمام بالعلم والعمل والإتقان والنظام واللياقة والذوق الراقى وسائر مظاهر الحضارة الرفيعة؟ هل يعقل مثلا أن تكون الأمة التى يقول قرآنها لرسولها ولكل فرد فيها: "اقرأ" ويدعو نبيها ربه قائلا: "رب زدنى علما" هى أمة لا تقرأ ولا تهتم بالعلم والثقافة؟ هل يعقل أن الأمة التى يقول لها نبيها إن "النظافة من الإيمان" تكون شوارعها وبيوتها بهذه القذارة؟ هل يعقل أن تكون الأمة التى شعارها: "وأمرهم شورى بينهم" هى إحدى الأمم التى تأتى فى ذيل البشرية من حيث رضاها باحتقار الحاكم لها وإسقاطه إياها من حسابه تماما؟ ولا داعى للمضى فى الكلام أكثر من ذلك.

وكنت أتكلم دائما فى الندوات والمحاضرات عن كل ذلك وأسجله فى الكتب. أما عن توقعى لهبوب الشعب فى ثورة عظيمة كهذه الثورة فأكون كاذبا لو زعمته. لقد كنت، رغم السخط المشتعل بين جنبىَّ، أبعد ما أكون عن ذلك التوقع. بل إن الذين ذهبوا فى البداية إلى ميدان التحرير لم يكن فى ذهنهم أن يقوموا بثورة، إذ كان هدفهم مجرد الاحتجاج والتظاهر، إلا أن الله سبحانه وتعالى كان له تدبير آخر. والجميع يقول ذلك ويشكره سبحانه وتعالى عليه. وبالمناسبة كانت ثورتى على الشعوب ولا تزال أشد من ثورتى على الحكام. ومسوغاتى فى ذلك هى أن الحكام لا يخسرون شيئا بسبب ما نحن فيه من تخلف وهوان ومذلة وفقر ومعاناة، فهم يعيشون فى قصورهم مرفهين منعمين لا يبالون بنا ولا بما نقاسيه على أيديهم النجسة. كما أنهم قد باعوا أنفسهم منذ زمن طويل فى سوق النخاسة إلى أعداء الأمة. أى أنهم قد اختاروا طريقهم، وانتهى الأمر. أما الشعوب، فما سر خنوعها ورضاها بالهوان الذى هى فيه؟ إنها، بهذا الصمت والخنوع، قد خلقت جلاديها خلقا، ودللتهم وغرتهم عن أنفسهم، فاندفعوا ينزلون بها الهوان والفقر والدمار، وبسومونها سوء العذاب ويسجنونها ويسحلونها ويهتكون أعراضها ويسرقون أموالها ويتعاونون مع أعدائها ضدها وضد بلادها ودينها وهويتها. والعجيب أنك تنظر فى أمر هؤلاء الحكام ومواهبهم فلا تجد لهم أية مواهب. بل إن بعضهم لا يستطيع أن يقرأ أو يكتب، فهم ممن يقال فى الواحد منهم إنه لا يعرف الألف من كوز الذرة. ولكنها أحوال العرب والمسلمين العجيبة!

والمرجو، بعد هذه الثورات العظيمة، أن تتغير الأحوال كثيرا إلى الأفضل، وإلا فكأنك يا أبا زيد ما غزوت! ذلك لأنه إذا لم يتحول الحكم من الاستبداد الغبى إلى الشورى الإنسانية، وتتغير شوارعنا من القذارة إلى النظافة، وكراهية العلم لدينا إلى الولع بالثقافة والمعرفة، وذمم الناس الخربة إلى ضمائر حساسة، والغرام بالشكل إلى الاهتمام بالجوهر، فلا معنى لقيام الثورة. إن الثورة ليست هدفا فى ذاتها، بل هى مجرد وسيلة للتغيبر. فإذا لم يتم التغيير من السيئ إلى الحسن فلا ثورة عندئذ ولا يحزنون، وتكون دماء الشهداء قد ضاعت فى الهواء. لا سمح الله! ولكن يبدو لى أننا، رغم كل ما يمكن أن تحصيه من سلبيات منذ قيام الثورة، ماضون فى الطريق السليم. ونأمل من الله أن تنتقل السلطة قريبا من العسكر إلى المدنيين، ويتحول المصريون والعرب إلى خلايا عمل ونضال لا تكل ولا تمل، ونصير أمة فعالة لا قوالة. أما ما تراه من مظاهر التسيب والانحراف، فالمأمول أن يختفى ذلك كله رويدا مع الأيام. والثورات الأوربية التى كنا نسمع بها فى الكتب ونتصور أنها لا يمكن أن تحدث عندنا قد مرت بمثل هذا وأسوأ منه حتى استقام أمرها فى نهاية المطاف. ولا حلاوة بدون نار كما يقولون!


3- كثير من كتاباتكم مثل "عصمة القرآن، وإبطال القنبلة النووية، واليسار الإسلامى، وموقف القرآن والكتاب المقدس من العلم، والكتاب الفضيحة…. وغيره" هى ردود على كتب. ألا يمنع ذلك منقيام مشروع نقدى متكامل لديكم؟


** نعم هناك مؤلفات لى فى الرد على بعض الكتب سواء فى الأدب والنقد أو فى مجال الفكر الإسلامى، إلا أنها لا تشكل نسبة كبيرة بين مؤلفاتى. بل إنك قد ذكرت الآن كتابا لا يعد من هذا الضرب من المؤلفات، وهو "موقف القرآن الكريم والكتاب المقدس من العلم". هذه واحدة، أما الثانية فمن قال إن مثل هذا اللون من التأليف يمنع من قيام مشروع نقدى لدىّ؟ لاحظ أنك تقول: "مشروع نقدى"، والنقد هدم وبناء. فكيف يكون هناك مشروع نقدى، ونصف النقد (وهو النصف الخاص بالهدم) غائب؟ هل رأيت بيتا يبنى دون أن يسبقه هدم للبيت القديم وتخلص من الركام الموجود فى الموقع وتسوية للأرض التى سوف يتم البناء عليها… إلخ؟ هل هناك كاتب كبير ذو مشروع نقدى، كما تقول، تخلو مؤلفاته من ذلك النوع من الكتب؟ لا بل عندك القرآن الكريم والعهدان القديم والجديد: هل تخلو تلك الكتب من الهجوم على من يكفرون بها أو يخرجون عليها حتى من بين المنتسبين إليها؟ أليس القرآن مثلا يمتلئ بالنصوص التى تحمل على المشركين والمنافقين وأهل الكتاب المتآمرين عليه؟ وسؤالك الآن ألا يعد من ذلك النوع أيضا؟ وإلا فلماذا لم تركز على ما توافق عليه من كتاباتى وتهمل الإشارة إلى ما ترى أنه ينبغى انتقاده؟ لكننى مرتاح أنك سألتنى ذلك السؤال لتستوضح أمره منى وتوضحه بدورك للقراء، وإلا كان ذلك تقصيرا منك، وأنا لا أحب لك التقصير.


4- صككتم تعبير "البكش الثقافى" راصدا من خلاله حالات الزيف العام الذى نعيشه. كيف تنظرون للواقع الثقافى حاليا؟


** الواقع الثقافى منذ فترة طويلة يتسيده الشيوعيون القدامى الذين تحولوا مع الأيام إلى حضن ماما أمريكا، وكانوا دائما جاهزين للدفاع عن النظام الفاسد الجائر بعض الهجوم الظاهرى على ذلك النظام حتى تجىء الطبخة مسبوكة. وكبير سدنتهم كان كثيرا ما يفعل ذلك رغم أنه هو المسؤول الأول عن الثقافة فى ظل ذلك النظام، منفذا ما يريده وزيادة، ولم نره يقف ولو مرة واحدة ضده. اللهم إلا إذا قال قائل إن النظام لم يخطئ قط. ومن الأحمق الذى يجرؤ على مثل تلك الدعوى؟ ومن مظاهر ذلك أنهم هم وحدهم تقريبا الذين يتبوأون المناصب الكبرى فى مجالات الثقافة، ويفوزون بالجوائز، ويُدْعَوْن إلى المهرجانات والمؤتمرات، ويتم تلميعهم بالباطل والبكش فى وسائل الإعلام، مع أن كثيرا منهم لا يحسن الإملاء والنحو، وثقافته ضحلة رغم ما يلجأ بعضهم إليه من الطنطنة ببعض المصطلحات، أو يتظاهر به من التبحر فى هذا المجال أو ذاك، وهو من هذا كله براء. وهَرْشَة واحدة فى جلده تريك حقيقته فى التو واللحظة. ولقد كان هذا أحد دوافعى إلى الكتابة الهدمية التى سبق إلى ظنك أنها مما يؤخَذ على الكاتب، مع ضرورتها الشديدة كما وضحتُ آنفا. والمرجو بعد ثورتنا الشعبية العظيمة أن يستقيم الحال المائل، ويعتدل الميزان، ويعود كل إلى حجمه الصحيح دون زيادة أو نقصان.


5- أشرتم فى كتابكم "لتحيا اللغة العربية" إلى أن جمال الغيطانى يخطىء فى معلومات بديهية فى رواية "الزينى بركات"، وقبلها حاكمتم تسليمة نسرين على روايتها: "العار". ترى، وأنتم أستاذ نقد، هل يصلح العمل الروائى للتعبير عن مكنونات الناس وضمائرهم؟


** وهل الأدب إلا التعبير عن الناس وواقع الناس ومشاكل الناس وما فى مكنونات الناس، سواء كان المقصود بالناس هم المؤلفين أنفسهم أو الخَلْق من حولهم؟ أتظن أن الأديب، حين يمسك بالقلم ليكتب رواية مثلا، يرخى لقلمه العنان كى يكتب ما يتبادر إلى سِنّه دون سابق إعداد وتفكير وتصميم؟ بالطبع لا، إذ هو يكتب ليقول شيئا. والناقد المخضرم يعرف ماذا يريد الروائى أن يقول. وبعض الأعمال يكون أمرها من الوضوح بمكان بحيث لا تحتمل الأخذ والرد إلا على سبيل المماراة التى يبرع فيها بعض المؤلفين المداورين المنافقين. وهناك أخطاء يرتكبها بعض الأدباء فى أعمالهم، ولا بد من انتقادهم عليها حتى يتجنبوها هم ويتعلم الدرس غيرهم فلا يرتكبوها بعدهم. وكثيرا ما نسمع أحد الأطباء يقول إن البطل الذى يقوم بدور طبيب فى الفلم الفلانى قد تصرف تصرفا لا يمكن أن يتصرفه الأطباء كأن يمسك بالسماعة بطريقة خاطئة عند وضعها على قلب المريض أو صدره. وينبغى أن يتنبه الأديب إلى مثل تلك الأمور حتى لا يقع فى الخطإ ويكون محل انتقاد المنتقدين. وعلى هذا فإذا وجدتُ رواية تهاجم الدين من أولها إلى آخرها فلا يصح أن يقال إن الأبطال هم الذين يفعلون ذلك لا المؤلف. لكن لماذا لايصح ذلك؟ لأن المؤلف هو الذى اختار هؤلاء الأبطال دون غيرهم، وإلا فالمجتمع يعج بالمتدينين والمتحمسين لدينهم حتى لو لم يلتزموا به الالتزام المطلوب، فكيف تصادف أن تجىء الرواية خالية تماما من هذا الصنف من الناس؟ لقد كان المؤلف يستطيع أن يأتى مع أولئك الأبطال بأبطال آخرين لهم رؤية مختلفة وآراء مغايرة ويقيم تفاعلا بين الفريقين. فإذا كان معروفا أن المؤلف يعادى الدين فى مواقفه الحياتية كان هذا دليلا على أن الرواية تعبر عن مكنون نفسه، إن صح أن نسمى هذا مكنونا بعدما عرف القاصى والدانى أن هذه هى رؤية الكاتب. ولنفترض أننا قبلنا القول بأن الرواية لا تعبر عن مكنون مؤلفها لقد كان ينبغى أن يوضح، بطريقة فنية طبعا، الأسباب والدوافع التى حملت البطل المعادى للدين على اتخاذ هذا الموقف العدائى. وعلى أية حال فهناك فريق من الروائيين لا يستطيعون أن يفصلوا بين أنفسهم وبين أبطالهم، وهذا عيب فنى كبير يأخذه النقاد عليهم، وهو عيب منتشر بين القصاصين والروائيين الصغار. ويقال فى هذه الحالة إن البطل قد تحول إلى بوق ينطق بما فى نفس المؤلف نطقا مباشرا، فترى البطل لا يتصرف ولا يتكلم على نحو طبيعى بل بطريقة مفتعلة لا تبررها الأحداث ولا السياقات التى يتحرك داخلها ولا الظروف التى تربى فيها ولا الإمكانات التى تتوفر له… وهكذا، فكأنه دمية يحركها المؤلف حسب هواه، خارجا بذلك على مقتضيات الواقعية واستنادها إلى المنطق ومبدإ السببية وما إلى هذا.


6- رغم حرصكم على بلاغة الأسلوب يلاحظ أنكم قد تتخذون السخرية كوسيلة انتقام ممن يهينون مقدساتنا، وذلك عن طريق التعبيرات اللاذعة مثل "بِـمْ، تقميع البامية، فاضى.. إلخ". لماذا هذا السلاح؟ ألا يُخْشَى على جدية المناقشة من السخرية هكذا؟


** وهل تظن أن السخرية والجد يتنافيان ولا يجتمعان؟ وحتى لو كان الأمر فعلا كذلك، هل تفسد السخرية أمر المناقشة تماما؟ الواقع أننى ألجأ أحيانا إلى السخرية حين أجد كاتبا لاسمه دوى شديد فى الأوساط العلمية العربية يعانى من الضعف المزرى فى أوليات البحث العلمى، ومن الفقر فى المعلومات اللازمة لبحثه، ومن التهافت فى النتائج التى وصل إليها ويعمل بكل قواه على نشرها بين القراء موهما إياهم أنها هى العلم الحق، ومن التبعية الذليلة لأعداء ديننا وحضارتنا، ومن الشعور بالدونية تجاههم. ولو لم يفعل الواحد منا ذلك أحيانا لَطَقَّ من أجنابه. وإياك، يا أبا خليل، أن تقول لى: أمسك! عبارة عامية! وإلا قلت لك: إن الفعل: "طَقَّ" فعل فصيح، ومثله كلمة "أجناب" (جمعا لـ"جَنْب"). وبالمناسبة فكلمة "فاضٍ" هى اسم الفاعل من "فَضَا يَفْضُو" مثل "خلا يخلو"، فهو "خال" وزنا ومعنى. والعبد لله لا يجد حرجا أى حرج من ترقية العبارات المنتشرة على ألسنة الشعب إلى المستوى الفصيح متى ما توفرت لها العوامل لذلك. بل لا مانع أحيانا من استعمال كلمة عامية هنا أو هناك. وكان العقاد، على جلالة قدره، يفعل هذا أحيانا. ويا سيدى، يمكنك، حتى لا تغضب، أن تعدها كالمخلل، الذى نضيفه إلى مائدة تضم ألوان الطعام الأرستقراطية المترفة. وكثير من الأغنياء يضعون فى بيوتهم إكسسوارات شعبية كزير صغير مثلا أو تمثال دقيق الجرم لعربة فول. والنفس الحلوة لها الجنة يا خِلّ! فلا تكن حنبليا معى، فأنا رجل غلبان، لست قَدّك! (ما رأيك فى هذه التعبيرات المخللاتية؟). والمهم ألا تفسد السخرية جو السجال العلمى فتطغى على عنصر البرهنة والتوثيق وإعطاء الخصم حقه من عرض أفكاره عرضا سليما.


7ـ حملتم فى أكثر من كتاب (كتاب "عصمة القرآن" وكتاب "ثورة الإسلام" مثلا) على المستشرقين وجهالاتهم، ألم يقم الاستشراق ركنا ما فى تطوير ثقافتنا، وتحقيقكتبنا؟


** بلى، ولكنهم بوجه عام لم يقصدوا تلك الخدمة، إذ الاستشراق ليس مجالا للإحسان، بل هو لدراسة العرب والمسلمين بغية فهمهم والإحاطة بجوانب حضارتهم والتغلغل فى نفسياتهم لمواجهتهم فى ميدان الحرب العسكرية والحضارية وهزيمتهم بناء على أسس علمية. ومع هذا فحين نرى إحسانا من أحدهم نقول إنه أحسن، أما عندما نراهم يغيرون كالتتار على ديننا ولغتنا وأدبنا وذوقنا فهل تظن أننا سوف نصفق لمن يفعل منهم ذلك؟ ترى هل تتصور أن الغربيين، حين يرون المتخصصين منا فى لغاتهم وآدابهم يقولون شيئا يسىء إليهم، سوف يهللون لهم بحجة أنهم يخدمونهم؟ إن مستشرقيهم يقابلهم عندنا مستغربونا، أى العلماء المتخصصون فى الآداب والحضارة الأوربية من خريجى أقسام اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية مثلا. وهذه بتلك. أريد أن أقول: إن كلا الفريقين يدرس الآخر، فلا جميل لأى منهما على صاحبه.


8_ رغم دراستكم بأكسفورد ظل نبع التلقى لديكم عروبي المنهل.هل تأثير "الاستغراب" يرتبط باستعداد فطرى لدى المرء؟ بألفاظ أخرى: كيف اتقيت التبعية الثقافية أثناء الدكتوراه بأكسفورد؟


** لا أدرى كيف أجيبك على هذا السؤال. لكن الذى أعرفه عن نفسى أننى ذهبت وأنا معتز بدينى واثق بنفسى، مع الانفتاح التام على ثقافات الآخرين (والآخرون هنا هم الغربيون)، وكذلك الاستعداد لمراجعة كل شىء بين الحين والآخر فى ضوء المستجدات الثقافية التى أواجهها. وكنت فى كل مرة أخرج من هذه المراجعة بالاطمئنان إلى ما فى جعبتى الثقافية. أقصد دينى وأدبى ولغتى. أم هل لا بد أن أترك كل تلك الكنوز التى أورثنيها الإسلام وأعتنق ما عند الغرب لمجرد أنه هو المنتصر فى المرحلة الحالية من التاريخ العالمى؟ لوأُخِذت الأمور هكذا لسارعت الأمم الضعيفة فى كل منعطف تاريخى لاتباع الأمم الغالية خبط لزق. لكن الأمور لا تؤخذ بهذا الأسلوب، بل بالمراجعة المخلصة لما فى يدك ومقارنته بما فى يد الآخرين، وهو ما كنت وما زلت أفعله كل فترة. وإن وجدتُ أن ما لدى الغرب أفضل مما فى أيدينا فلسوف تكون أنت أول من يعلم. فلا تغلق الجوال، وانتظر منى مكالمة فى أى وقت من فضلك، وإلا ضاع عليك هذا السبق الصحفى الذى لا أظن أحدا سوف يفوز به أبدا.


10_ لكم ألفاظ صككتموها بدلا من الكمبيوتر والحاسوب والإنترنت. إلى أى حد بلغ انتشارها؟ وإلى أى حد يمكن التقدم بمشروعاتها للمجمع اللغوى؟


** أظن أن بعض الناس صار يستخدمها، وبعض هؤلاء يخاطبوننى فى الإيميل (الرسائل المشباكية) بها. ومن الصعب علىَّ أن أعرف مدى انتشارها. والزمن وحده هو الذى يمكنه الإجابة على هذا السؤال. والعبرة على كل حال باستجابة الناس واستعمالهم للألفاظ الجديدة لا بتبنى المجمع لها، فقد يتبنى المجمع شيئا ولا ينتشر، والعكس بالعكس.